أتذكر اللحظة التي قررت فيها مقاطعة المنتجات الإسرائيلية. لا أذكر عمري حينها، ربما كنت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري. طلب مني أبي شراء دواء لجدتي في ذلك المساء وذهبت إلى صيدلية زياد أحمل (الروشتة). أخبرني الصيدلاني أن هناك نوعين من هذا الدواء، أحدهما إسرائيلي والآخر فلسطيني، حتى حينها كنت أعرف بأن هناك من يفضّل “جودة” المنتجات الإسرائيلية -يجادلون بأن لديهم أفضل المختبرات والمصانع وغيرها، أعلم ذلك، أعلم بقوتهم المادية وأعلم أننا نستخدم عملتهم هنا، أنهم يمتلكون الكثير من أموال العالم، ولكنه احتلال وبكوننا شعب محتل فإننا لا نمتلك رفاهية صنع أفضل ما يكون في كل شيء، ولكن أحيانًا نستطيع- لوهلة، أفكر بصحة جدتي، قد يكون منتجهم الأفضل وهذا يعني أنه سيساعدها أكثر. أقرر أن أسأل الصيدلاني كي آخذ قررًا أفضل. أسأله “عمو، مين الأفضل؟” يخبرني أنهم يتشابهون في المكونات وفي كل شيء. آخذ قراري بحسم. إذًا أعطني الفلسطيني.
لم أكن أملك مالًا سوى مصروفي المدرسي حينها، ولذلك أخذ قرارات تتعلق بالشراء هو ما أخّر اللحظة وموقفي عندها. بعد فترة أجد شيبس مكتوب عليه بالعبرية. أقرر أنني لن أشتريه. يخبرني أحدهم أن الشمينت (كلمة عبرية تعني الزبادي أصبحت جزءًا من مصطلحاتنا. شيء آخر تغلغل إليه هذا الاحتلال السام) الإسرائيلي أفضل من الفلسطيني، أكره أنني سمعت هذه الجملة بالعربية.
في إحدى ليالي صيف 2006، كنت أجلس مع أبي بين شوطين إحدى مباريات كأس العالم. يتنقل أبي في هذا الوقت بين المحطات. نجلس على فراشه على سطح المنزل أمام شاشة التلفزيون الأرضي المرفق بأنتينا. بين المحطات الخليلية (نسبة إلى الخليل) توجد بعض المحطات الإسرائيلية. يتابع أبي الأخبار بالعبرية. أخبره بأنني أريد تعلم العبرية. لا أعلم ماذا أردت حينها من ذلك. هل كنت أرغب في تعلم لغة جديدة بسبب حبي للغات؟ ولكن لم أحب العبرية قط. أم أنني رغبت أن أفهم ما يفهمه أبي. وربما لأنني سمعت الكثير من “تعلّموا لغة عدوكم”. يقول أبي “بوكر توف يعني صباح الخير. بوكر أور يعني مساء الخير،” أقول له أنني لا أريد البدء بتعلم اللغة هكذا. يجب بدء تعلّم اللغة من تعلم الأحرف (الحمدلله لا أؤمن بهذا النهج الآن على الإطلاق).
في الجامعة، كطالبة في كلية الآداب في الجامعة الإسلامية بغزة يجب أن أدرس اللغة العبرية، مساق يقدم الأحرف وحوارات والفعل الماضي والفعل المضارع. أسأم من اللغة حينها. هذا العدو يلاحقنا في كل مكان. أقرر أنني لا أريد تعلم العبرية. فليفهمونني بعربيّتي. في الليلة التي سبقت يوم الاختبار النصفي لم أكن أعرف حتى كيف يقولون “كيف حالك؟” بالعبرية. أطلب من أبي أن يقرأها وأتنقل كثيرًا من الغرفة إليه لسؤاله. في النهاية، حصلت على تقدير جيد جدًا في هذا المساق. لم أكن أريد السماح لعدو أن يسبب إخفاقي بشيء.
هناك من يسألني عن مسألة الخضروات والفاكهة. يسمونها فاكهة إسرائيلية، إذًا كيف أتناولها؟ أخبرهم بأنني أتمنى لو لم يكن للاحتلال أي يد بها. كل ما أعرفه أن الأرض أرض فلسطين والهواء هواء فلسطين والمياه مياه فلسطين وكلها مسروقة. وحتى العمّال الذين يعملون في الأراضي الزراعية فلسطينيين. أخبرهم أنني نعم أتناول الأفوكادو، هل تعرفون كمية المياه التي يحتاجها الأفوكادو؟ هل تعتقدون أن غزة بوسعها تقديم كل هذه المياه للأفوكادو ونحن بالكاد لدينا مياه صالحة للشرب. قرأت على حساب متراس على انستغرام أن نسبة المياه الصالحة للشرب في غزة تبلغ 3٪ فقط. 3٪. غزة لا تملك رفاهية هذا النقاش.
في تلك السنوات، كنت أعلن لأي شخص عن مقاطعتي للمنتجات الإسرائيلية. لا ألوم كثيرًا من لا يقاطعها في غزة أو في فلسطين بشكلٍ عام. منذ بدء الحصار على غزة، أصبح العدو يتحكم أكثر بكل ما يصل إلينا. يعرفون حتى أسماء الكتب التي نشتريها من مواقع أجنبية. أحقد على العدو، لا أحقد على من يشتري.
تظهر حملات المقاطعة في غزة أثناء وبعد الحروب. كنت أدرس في قطر أثناء الحرب الأخيرة. بدأت حملة مقاطعة أكبر على المنتجات الإسرائيلية ثم أي منتج من أي شركة تدعم الاحتلال. أقرأ كل اسم بحذر. أجد بينها اسم Garnier، أتذكر أن منتج ماء ميسيلار (منظّف للوجه ومزيل للمكياج) الذي أستخدمه من عندهم. أقرر ألا أشتري منهم بعد الآن. أقاطع شركات أخرى. لم أشترِ أبدًا من ستاربكس خلال السنتين.
أخبر صديقاتي أثناء التسوق بكل منتج نراه إن كنت أقاطع من يصنعه. أتابع صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لتخبرني أي الشركات التي على أن أقاطعها. لن تصبح حياتي أصعب بدونها. أبحث عن منتجات بديلة.
أسمع الكثير من “كيف يستطيع شخص واحد أن يؤثر؟” أخبرهم أنني أؤمن بالتغيير هكذا، أؤمن بالبدء بالنفس. ولكن الأهم أن المقاطعة موقف أخلاقي. مسألة تتعلق بمواجهة ذاتي.